حسب المادة ٦٠ مكرر من الدستور المصري النافذ بعد أن أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة الإعلان الدستوري المكمل بتاريخ ١٧ يونيو/حزيران ٢٠١٢، فإن الجمعية التأسيسية ستكون مكلّفة بصياغة الدستور ولكن ضمن قيود موضوعية. تحديداً فإن الجمعية التأسيسية، دائماً وفقاً لنص المادة ٦٠ مكرر، لن تكون قادرة على طرح أي نص دستوري على الاستفتاء إذا كان يتعارض مع "مبادئ الثورة وأهدافها الاساسية التي تتحقق بها المصالح العليا للبلاد، أو مع ما تواتر من مبادئ في الدساتير المصرية السابقة". النص نفسه يعطي المحكمة الدستورية فعلياً سلطة الرقابة على أعمال الجمعية التأسيسية من حيث مطابقة النص الدستوري لمبادئ الثورة وما تواتر من مبادئ في الدساتير المصرية السابقة. سلطة الرقابة هذه لا يمكن للمحكمة مباشرتها من تلقاء ذاتها ولكن في حالات معينة ذكرها النص الدستوري حصراً. فإذا ما كان هناك خلاف ضمن الجمعية التأسيسية (اعتراض عشرين عضواً على الأقل)، أو بين الجمعية التأسيسية من جهة ورئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء أو رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية من جهة أخرى حول ما إذا كان اي نص مقترح يتعارض "مع مبادئ الثورة ...إلخ.."، وأصرّت الجمعية التأسيسية على رأيها، كان للمحكمة الدستورية العليا أن تفصل في الخلاف بقرار نهائي ملزم للجميع.
هذه القيود برأيي أكثر أهمية من إمكانية استئثار المجلس الأعلى للقوات المسلحة بسلطة تشكيل الجمعية التأسيسية. ومن الصعب أن نتكهن، دون شطط، بهواجس المجلس الأعلى للقوات المسلحة التي تبرر إضافة قيود موضوعية على نص الدستور الذي يمكن للجمعية التأسيسية أن تطرحه للاستفتاء. كل ما نستطيع أن نفعله لتقييم هذا النص هو أن نحاول ان نستقرئ آثاره.
هناك تناقض جوهري في أن يكون للمحكمة الدستورية العليا، وهي مؤسسة نشأت بقضاتها وقواعدها في سياق ولخدمة نظام سياسي قامت الثورة بإسقاطه، دور تعريف ماهي المبادئ الاساسية لهذه الثورة التي تحقق المصلحة العليا للبلاد أو تحديد ما تواتر من مبادئ في الدساتير المصرية السابقة. وهذا التناقض الجوهري موجود دون أن نفترض أي سوء نية أو نشكك في استقلال قضاة المحكمة. وهو موجود حتى لو كان نص المادة ٦٠ مكرر أقل غموضاً في تحديد ما هي أهداف الثورة وكيف يمكن أن نقرر أن مبدأ معين متواتر في الدساتير المصرية السابقة. هناك أولاً التناقض الممكن بسبب تداخل جوهري بالمصالح. لنفترض مثلاً أن أغلبية من أعضاء التأسيسية قررت إلغاء نظام الرقابة الدستورية على القوانين بعد صدورها أو إلغاء المحكمة الدستورية العليا ككل أو وضع سلطة رقابة القوانين لدى قاضي الاستئناف في الدائرة ذات الاختصاص. و لنفترض أيضاً أن خمس أعضاء التأسيسية اختلفوا مع هذا الإتجاه للأغلبية على أساس أن أي من هذه التعديلات المقترحة لا يتفق مع مبادئ الثورة أو ما تواتر من مبادئ في الدساتير المصرية السابقة. فهل من الممكن أن نتوقع أن المحكمة الدستورية العليا قادرة على أن تفصل في هذه المسألة بتجرد؟
هذا النوع من التناقضات سهل على سفسطائي القانون. بمعنى أن الذهنية القانونية السائدة مهيئة للتعامل مع وتحييد هذا النوع من التناقضات. ولكن هذه التناقضات السطحية لا تعبر عن ما هو برأيي التناقض السياسي الأعمق. هذا التناقض السياسي يدفع إلى الواجهة استثنائية الثورة كحدث في تاريخ الشعوب. الثورة لها شرعيتها التي تؤسس لنظام قانوني/سياسي/اقتصادي/اجتماعي لا يمكن تبريره بمفردات ومؤسسات النظام السابق. من المفترض في الدستور الجديد أن يعطي إطاراً شكلياً يعبر عن توازن قوى جديد في المجتمع وعن التوافق على القيم الأساسية التي تميز النظام السياسي في مرحلة ما بعد الثورة وتحقق قطيعته مع النظام القديم و خاصة مع "ما تواتر من مبادئ في الدساتير المصرية السابقة". لنفترض مثلاً أن أغلبية من أعضاء التأسيسية جنحوا نحو تفضيل نظام دستوري نيابي على عكس ما تواترت عليه الدساتير المصرية السابقة؟ هل يمكن أن نعتبر أن رئاسية النظام الدستوري هي من المبادئ التي تواترت عليها الدساتير المصرية السابقة التي تقيد اختيارات التأسيسية؟ وماذا عن النصوص الدستورية المتعلقة بالنظام الاقتصادي والاجتماعي أو التي تنظم علاقة المؤسسة العسكرية بأجهزة الدولة؟
من الممكن أن نقبل جدلاً أن مقارنة تاريخية للتطور الدستوري في كثير من الدول التي مرت بمراحل ثورية ترجح صعوبة تحقيق قطيعة مطلقة مع النظام القديم و أن بعض الخيارات الدستورية السابقة لا بد أن يكون لها، بعد الثورة، ثقلها المباشر أو غير المباشر الذي لا يمكن تجنبه دون الوقوع في فخ المثالية القانونية الذي يحوّل الدستور إلى وثيقة شكلية صرفة غير مؤثرة لأنها منفصلة عن الثقاقة السياسية الكامنة في مؤسسات الحكم والخيال الجمعي للمواطنين. ولكن السؤال في هكذا حال هو كيف نميز بين المبادئ في الدساتير المصرية السابقة التي من شأنها أن تقيد التأسيسية من تلك التي من الممكن تجاوزها في مصر ما بعد الثورة؟ وماذا يعني أن يشترط النص الدستوري في مبادئ الثورة وأهدافها التي من شأنها أن تقيد عمل الجمعية التأسيسية أن تحقق "المصالح العليا للبلاد"؟ وما هي "المصالح العليا للبلاد"؟ وأي من أهداف الثورة ومبادئها (على افتراض أننا نستطيع أن نرصد توافقاً على قائمة من الأهداف بين مختلف القوى السياسية، لا يحقق، من منظور المجلس الأعلى للقوات المسلحة، "المصالح العليا للبلاد"؟ والأهم من ذلك كله هل من المعقول أن نُسند سلطة تقرير هذه المسائل القيمية والسياسية بامتياز وما يمكن طرحه على الاستفتاء إلى محكمة مؤلفة من قضاة غير منتخبين، متمرسين مهنياً في فن ترقيع دستور بائد وإعلاء قيمه؟ وهل من المعقول أن تبدأ اللجنة التأسيسية صياغة دستور ما بعد الثورة من فرضية أن الأرضية المشتركة التي سيتم عليها تأسيس النظام الدستوري الجديد هي المبادئ المتواترة في دساتير مصرية سابقة؟ وما هو أفق التغيير الممكن تحقيقه في هذه الشروط؟
النص قبل الإعلان الدستوري المكمل كان يعطي سلطة فعلية في صياغة نصوص الدستور للكتلة البرلمانية ذات الأغلبية. الأغلبية البرلمانية لم تكن مقيدة بأي معايير موضوعية واضحة سوى التزام أدبي بالوصول إلى وثيقة توافقية مع سائر "أطياف المجتمع المصري". الجمعية التأسيسية كانت تتمتع باستقلال مؤسساتي شكلي فور انبثاقها عن مجلس الشعب المنتخب. لم يكن لرئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، رئيس الجمهورية، رئيس مجلس الوزراء أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية أي دور مباشر في صياغة الدستور أو أي سلطة مباشرة تسمح لهم التأثير على مضمون الوثيقة الدستورية التي ستطرح على الاستفتاء. المادة ٦٠ مكرر في الواقع تدخل التعديل الجذري و الفج الذي يلغي الاستقلال الشكلي للجمعية التأسيسية لأنه: 1) يُعطي لأطراف فاعلة في المجال السياسي ذات مصلحة القدرة على التأثير على سير عمل الجمعية التأسيسية و على مضمون الدستور المقترح قبل طرحه للاستفتاء،2) يضع قيوداً موضوعية (أي تخص نص الدستور ذاته و المبادئ والحقوق التي يمكن أن يؤسسها) لنتاج عمل الجمعية التأسيسية، و 3) يُخضع الجمعية التأسيسية لرقابة المحكمة الدستورية العليا وهي، كهيئة غير منتخبة بقضاتها و قواعدها، من تركة النظام الدستوري البائد. إذا حاولنا إسقاط نص هذا التعديل على الخارطة السياسية الحالية وتوازن القوى وتوزيع المناصب فإن المادة ٦٠ مكرر في الواقع ترسخ إجرائياً حق فيتو فعلي لكل من حزب الحرية و العدالة و المجلس الأعلى للقوات المسلحة يسمح لهم في أسوأ الأحوال تعطيل عمل الجمعية التأسيسية أو على الأقل تأخيره. بالإضافة إلى ذلمك فإن المادة ٦٠ مكرر تعطي كلاً منهما مدخلاً فضفاضاً يسمح لهما صراحة تحديد ما هو محتوى النص الدستوري الذي يمكن طرحه على الاستفتاء. و هذه سلطة استثنائية لم تكن لأي منهما من قبل. إعادة توزيع السلطات هذا بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة و حزب الحرية و العدالة قد يكون له أثر على ما يمكن نقاشه داخل الجمعية التأسيسية. فمن شأنه اختصار المسائل الخلافية التي تستقطب النقاش داخل الجمعية التأسيسية الى المسائل "العالقة" بين المجلس وحركة الإخوان. أمّا المسائل التي ليس فيها خلاف موضوعي بينهما كالخطوط العامة للنظام الاقتصادي الاجتماعي فباستطاعتهم فرضها على باقي القوى السياسية أو تجنب التركيز عليها في المداولات داخل الجمعية التاسيسية. بعبارة أخرى، المادة ٦٠ مكرر تجعل صياغة الدستور عملية غير ديموقراطية من حيث المنشأ يحق فيها لأطراف سياسية فاعلة و مستفيدة أن تتحكم صراحة و بفجاجة في صياغة قواعد اللعبة السياسية وتحديد مجال الاختلاف السياسي الذي يمكن لاستفتاء شعبي أن يحسمه.
من وجهة نظر براغماتية صرفة، فإن هذه النتيجة ليست جيدة أو سيئة ولكنها تعكس توازن القوى الحالي. بمعنى أنه وبغض النظر عن ما إذا تم إنقاذ الجمعية التأسيسية التي انبثقت عن مجلس الشعب المنحل أو قرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة المضي قدماً في تشكيل جمعية تأسيسية جديدة، أو حتى في حال توافقت مختلف القوى السياسية على تشكيل متوازن للجمعية التأسيسية، فإن المادة ٦٠ مكرر تكرس فعلياً المركز السياسي للإخوان و تقويه. النقاش العام من أجل صياغة دستور مصر بعد الثورة قد يتحول في الواقع إلى مفاوضات وراء أبواب مغلقة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة و حركة الإخوان المسلمين. ومن الواضح، إذا ما كانت هذه القراءة صحيحة، أنه ليس لحركة الإخوان المسلمين أيّ مصلحة برفض العمل بضمون الإعلان الدستوري المكمل، في ما عدا الاعتراض الشكلي من أجل إنقاذ رأس مالهم السياسي. من وجهة نظر قيمية فإن هذه النتيجة خسارة مؤلمة لقوى الثورة التي نادت بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وهي تقصي من النقاش السياسي العام قطاعاً واسعاً من المجتمع المصري يغلي غضباً و استياء من شقاء الحال. الإعلان الدستوري المكمل يؤسس لعلاقة بين مكونات المجال السياسي المصري تشبه بنيوياً العلاقة بين الكنيسة وطبقة النبلاء والبرجوازية (العوام) أو ما كان يسمى بالطبقة الثالثة (tiers état) في النظام السياسي الفرنسي قبيل الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩.
الإعلان الدستوري المكمل يضع المجلس الأعلى للقوات المسلحة خارج النظام السياسي القانوني. فهو يجعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة كـ "واقع" تنبثق عنه و تتأسس عليه شرعية النظام القانوني/السياسي لمرحلة ما بعد الثورة و ليس كمؤسسة يمكن نقدها وإعادة تشكيلها و إعادة النظر في دورها و سلطاتها. رمزياً الإعلان الدستوري المكمل يجعل دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالنسبة للنظام القانوني/السياسي المصري كالإله بالنسبة للدنيا و الآخرة . وإذا تركنا الميتافيزيقيات لنلطخ أيادينا بطين السياسة فإن المجلس الاعلى للقوات المسلحة يضع سلطته بموازاة و بمقابل سلطة الشعب، ولأعماله الآن نفس آثار الثورة على النظام السياسي/ القانوني. أعمال المجلس الاعلى الآن معادل رمزي مقابل (ضد) سياسي للثورة من حيث علاقاتها مع النظام القانوني والسياسي في مصر. الثورة حدث استثنائي يؤسس لشرعية جديدة لا تحترم ما سبقها و تصنع دستورها و قانونها. وكذلك المجلس العسكري وفق للإعلان الدستوري المكمل. هذه المعادلة الأساسية تُعرّف بشكل واضح التناقض الأساسي اليوم الذي يزلزل أركان النظام السياسي المصري. و هذا التناقض الأساسي لا يمكن تجاوزه بقياس منطقي أو بتفسير قانوني لعبارة مجردة كـ" مبادئ الثورة و أهدافها التي تتحقق بها المصالح العليا للبلاد" أو "ما تواتر من مبادئ في الدساتير المصرية السابقة.